حلم لم يتحقق بسبب خلافات السياسة: قصة محاولات “فاروق القاسم” لإنقاذ النفط العراقي

بغداد/روافدنيوز
فاروق القاسم خبير جيولوجي عراقي مختص في النفط ولد عام 1936، كان له دور محوري في تطوير إدارة النفط النرويجية منذ أواخر ستينيات القرن الـ20، كان ضمن أول بعثة طلابية عراقية إلى الخارج بهدف تكوين نخبة وطنية لإدارة شؤون النفط ضمن خطة واسعة لتأميم ذلك القطاع الذي كان تحت سيطرة الأجانب، خاصة البريطانيين.
ساهم القاسم منذ عام 1957 في وضع اللبنات الأولى لسياسة بلاده في تأميم القطاع، ولظروف عائلية اضطر عام 1968 إلى مغادرة العراق متوجها إلى النرويج التي كانت حينئذ تتلمس طريقها في التنقيب على النفط، وهناك ساهم في إدارة وتثمين الثروة النفطية بشكل جعل البلاد رائدة في هذا المجال.
تعددت التوصيفات التي خصته بها وسائل الإعلام الدولية، منها “أمير النفط” و”عراب النفط النرويجي”، و”منقذ النرويج بالنفط”، لكنه يميل إلى اعتبار نفسه “مهندس النموذج النرويجي” في مجال إدارة الثروة النفطية.
المولد والنشأة
وُلد فاروق القاسم عام 1936 في مدينة البصرة جنوبي العراق، كان والده عبد العزيز معلما وأصبح لاحقا مدير مدرسة، وكان معيلا رئيسيا لعدد من أقاربه، والدته هي وفيقة ياسين.
الدراسة والتكوين
أظهر القاسم نبوغا مبكرا، إذ تعلم مبادئ القراءة والحساب قبل بلوغه السن الرسمية للدراسة بفضل قربه الكبير من والده، واصل تعليمه الابتدائي في مدرسة عمومية بمدينة البصرة وتميز بتفوقه.
وعندما بلغ سن الـ11 غادر البصرة إلى العاصمة بغداد، والتحق بما كان تُعرف حينئذ بـ”كلية الملك فيصل”، وهي مدرسة ثانوية تعتمد منهجا دراسيا باللغة الإنجليزية، وتهدف إلى إعداد نخبة من الطلاب لمتابعة دراستهم الجامعية في الخارج.
لكن تلك التجربة استمرت 3 أشهر فقط بسبب اضطرابات سياسية أدت إلى إغلاق الكلية بعد أن هاجمها محسوبون على “التيار القومي” بذريعة أنها “تحتضن منتسبين إلى التيار الشيوعي”، فكان القاسم مجبرا على العودة إلى البصرة ومتابعة التكوين نفسه، لكن باللغة العربية.
بعد حصوله على الثانوية العامة عام 1953 اُبتعث القاسم إلى بريطانيا ضمن مجموعة تضم نحو 200 طالب -بتمويل من شركة نفط العراق- للدراسة في مجال النفط، وذلك في إطار خطة حكومية تهدف إلى تأميم القطاع الذي كان تحت سيطرة الأجانب، خاصة البريطانيين.
درس القاسم جيولوجيا النفط في المدرسة الملكية للمناجم بكلية لندن الإمبراطورية، وفي بريطانيا تزوج فتاة نرويجية اسمها ميك سولفريد، وكانت تعمل في لندن مربية للأطفال، وعادت معه إلى العراق عام 1957 بعد أن أكمل دراسته الجامعية.
عاش القاسم وزوجته في البصرة وأنجبا 3 أطفال هم فريد ونادية ورائد الذي وُلد عام 1966 مصابا بشلل دماغي، وكان في حاجة إلى رعاية طبية خاصة لم تكن متاحة حينئذ في العراق، وهو ما دفع العائلة إلى السفر إلى النرويج عام 1968 والاستقرار هناك.
انتهت العلاقة بين القاسم وزوجته النرويجية بالطلاق، وبعدها تزوج بسيدة عراقية تُدعى أمل كنعان محمد.
التجربة المهنية في العراق
بعد عودته من بريطانيا إلى مسقط رأسه في البصرة عام 1957 انضم القاسم إلى شركة نفط العراق التي كانت آنذاك تمر بمرحلة انتقالية نحو الاعتماد على الكوادر العراقية والتخلي التدريجي عن الكوادر الأجنبية، ولا سيما البريطانيين والأميركيين.
بدأ القاسم مشواره المهني بصفة جيولوجي مقيم، وفي فترة 10 سنوات تدرج وظيفيا في هياكل المؤسسة إلى أن أصبح الرقم “5” في هيكلة الشركة وأعلى مسؤول عراقي في الدرجة الوظيفية.
إلى النرويج
في عام 1968 اضطر القاسم وزوجته للسفر إلى النرويج والعيش هناك بعد أن تبين لهما أن ذلك البلد يوفر الرعاية الطبية التي يحتاجها ابنهما رائد الذي كان يحتاج إلى معالجة طبية تستمر 5 سنوات مع عملية جراحية.
في بداية الرحلة انتقلت الزوجة والأطفال إلى النرويج، ولاحقا غادر القاسم العراق متوجها إلى بريطانيا التي كانت فيها مقرات الشركات الغربية المسيطرة على معظم انتاج النفط في بلاد الرافدين.
كان القاسم يخطط للعمل هناك والبقاء قريبا نسبيا من زوجته وأطفاله، لكن تعذر عليه الحصول على وظيفة تناسب خبراته ومؤهلاته، فقرر التوجه إلى النرويج في مايو/أيار 1968.
لم يكن القاسم على علم بما يجري في قطاع النفط في ذلك البلد الإسكندنافي، وكان مستعدا للعمل في محطة بنزين أو حتى سائق تاكسي لكي يعيل زوجته وأطفاله.
وبالصدفة زار مقر وزارة الصناعة في العاصمة أوسلو للاستفسار عن فرص العمل بمجال النفط، وذلك في وقت كانت النرويج في أولى مراحل التنقيب عنه في بحر الشمال.
عندما التقى القاسم بمسؤولي الوزارة تحول اللقاء من مجرد فرصة استكشافية إلى ما يشبه مقابلة توظيف بعد أن لفتت خبراته المهنية في مجال النفط وخلفيته الأكاديمية انتباههم، باعتباره نموذجا لما كانت البلاد بحاجة إليه في تلك المرحلة، وبناء على ذلك تقرر تعيينه مستشارا، واستمر في تلك المهمة 3 أشهر قبل أن يثبّت رسميا في منصبه.
كانت مهمة القاسم هي تحليل نتائج استكشاف النفط، والتي كانت تجريها شركات أجنبية في الشق النرويجي من بحر الشمال، وكان ذلك مقابل راتب أعلى بقليل من راتب رئيس الوزراء.
كان عدد المسؤولين في إدارة النفط النرويجية حينئذ 3 فقط، جميعهم في الثلاثينيات من العمر، وكانوا جميعا يتعلمون ميدانيا أثناء عملهم، وأصبح القاسم رابعهم، وكان متحمسا للنتائج الواعدة التي أظهرها تحليل البيانات الواردة من آبار استكشاف بحرية مختلفة.
في عام 1969 حققت النرويج قفزة كبرى باكتشاف حقل “إيكوفيسك” الضخم، وكان للقاسم دور حاسم في ذلك، مما أهله للاضطلاع عام 1971 إلى جانب خبير نرويجي بصياغة تشريع عُرف فيما بعد بـ”الوصايا النفطية العشر” للبلاد، واعتمده البرلمان.
شكلت تلك الوصايا الأرضية الأساسية التي تدير النرويج بموجبها مواردها النفطية، وبموجب تلك الرؤية أنشئت مديرية البترول النرويجية، وهي الجهة المنظمة لصناعة النفط في البلاد، إضافة إلى شركة “ستات أويل” للنفط.
وفي عام 1972 عُيّن القاسم أول مدير لإدارة الموارد في مديرية البترول النرويجية.
لم يكتف بإدارة شؤون النفط، بل اقترح على سلطات البلاد إنشاء صندوق ثروة سيادي لإدارة إيرادات النفط بشكل سليم ومستقل عن الحكومة، وبشكل ينمّيها ويحفظ حقوق الأجيال المقبلة منها، وهو ما تحقق عام 1990 بإطلاق “صندوق التقاعد الحكومي العالمي” الذي يُعد من أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم.
بقي القاسم في منصبه حتى يناير/كانون الثاني 1991، ثم عمل مستشارا مستقلا، واستعانت به السلطات النرويجية دليلا للمجموعات الدولية التي تأتي إلى النرويج للتعرف على النموذج النفطي النرويجي، كما عمل مستشارا لدول أخرى منتجة للنفط.
العراق مجددا
عاد القاسم إلى العراق مرة واحدة فقط في أواخر سبعينيات القرن الـ20 ضمن وفد نرويجي رسمي، وبعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين عام 2003 إثر الغزو الأميركي للعراق قدّم فاروق القاسم مشروع قانون لصناعة النفط في بغداد، مستلهما نجاح “النموذج النرويجي” الذي ساهم في بنائه، لكن الخلافات السياسية التي سادت آنذاك حالت دون اعتماد تلك المسودة.
تكريم ووسام
يصف ويلي أولسن المدير السابق لشركة النفط النرويجية “ستات أويل” المهندس القاسم بأنه “أعظم صانع للقيمة في تاريخ النرويج”.
وفي 24 سبتمبر/أيلول 2012 منحه ملك النرويج وسام فارس من الدرجة الأولى مكافأة له على الخدمات التي قدمها للشعب النرويجي في مجال صناعة النفط./انتهى